الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي
.تفسير الآية رقم (36): {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)}الحق سبحانه تحدث من قبل عن العقوبات والقصاص والتقتيل والتقطيع، ثم ينقلنا من هذا الجو إلى أن نتقي الله ونبتغي إليه الوسيلة ونجاهد في سبيله حتى نفلح، وكان لابد أن يأتي لنا الحق بالمقابل، فالعقاب الذي جاء من قبل كقصاص وقتل هو عقاب دنيوي. ولكن ما سيأتي في الآخرة أدهى وأمرّ. {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36].ولنا أن نتصور الجماعة الكافرة التي تتكبر في الدنيا ويعتلون ويرتفعون بالجبروت، فماذا عن موقفهم يوم القيامة؟. لقد اقمتم الجبروت بقوَّتكم على غيركم، وها هي ذي القُوّة تضيع وتفلت. لقد كانت القوة تعيش معكم في الدنيا بالأسباب الممنوحة من الله لكم. ولم تَضنّ عليكم سُننْ الله أن ترتقوا، وسبحانه قد خلق السُنَن ومن يبحث في أسباب الله، ينلْ نتيجة ما بذل من جهد، لكن ها هوذا يوم القيامة، وها أنتم أولاء تعرفون أن الأسباب ليست ذاتية. وأن قوَّتكم لم تكن إلا عطاءٌ من الله. ها أنتم أولاء أمام المشهد الحيّ، فلو أن ما في الدنيا جميعاً معكم وحتى ولو كان ضعف ما في الدنيا وتريدون أن تقدِّموه فِدْيَةً لكم من عذاب جهنم فالله لا يتقبله، وتلك قِمِّة الخِزْي، ولن يستطيعوا تخليص أنفسهم من عذاب جهنم.وهذا المشهد يجعل النفس تستشعر أن المسألة ليست لعباً ولا هزلاً، ولكن هي جِدّ في منتهى الجِدّ. وعلى الإنسان أن يقدِّر العقوبة قبل أن يستلذّ بالجريمة. والذي يجعل النس تستَشري في الإسراف على أنفسهم، أن الواحد منهم يعزل الجريمة عن عقوبة الجريمة. ولو قارن الإنسان قبل أن يسرف على نفسه العقوبة بالجريمة لما ارتكبها. وكذلك الذي يكسل عن الطاعة؛ لو يقارن الطاعة بجزائها لأسرع إليها.وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- نفترض أن إنساناً في صحراء نظر إلى أعلى الجيل ورأى شجرة تفاح، واسْتَدَلّ على التفاح بأن رأى تُفاحة عَطبة واقعة على الأرض، وقال الرجل لنفسه: هأنذا أرى مصارع الناس؛ فهذا يصعد إلى الجبل فيقع من على حافته. وذلك تهاجمه الذئاب. وثالث يتوه عن الطريق. كل ذلك على أمل أن في الشجرة ثماراً. ولابد لي من أن أختار الطريق السليم إلى الثمار. والطريق إلى ثمار الدنيا الطاعة لمنهج الله، وهو الطريق إلى ثمار الآخرة.وأيضاً: الطالب المجتهد الذي يتغلب على النعاس ويتوضأ ويًصلّي ويخرج إلى مدرسته في برد الشتاء ليحصل الدروس. ويعود إلى المنزل لتقدّم له أمه الطعام، ولكنه مشغول بالدرس. إن هذا الشاب يستحضر نتيجة هذا الجُهد؛ لذلك فكل تعب في سبيل التعلُّم صار سهلاً عليه، ولو أهمل ونام ولم يقم مبكراً إلى المدرسة، وإن استيقظ وخرج من المنزل ليتسكع في الطرقات مع أمثاله؛ يكون في مثل هذه الحالة غير مُقدِّر للنتيجة التي تقوده إليها الصَّعْلَكة.والعيب في البشر أنهم يعزلون العمل عن نتيجته، ويفصلون بين الجريمة وعقوبته، والطاعة عن ثوابها. إنّنا لو وضعنا النتيجة مقابل العمل لما ارتكب أحد معصية ولا أهمل أحد في طاعة.ولنا أن نتصور مشهد الجبارين في الدنيا وهم في نار الآخرة، عم بطشوا في الدنيا ونهبوا، ولنفترض أن الواحد منهم قد امتلك كل ما في الدنيا- على الرغم من أنّ هذا مستحيل- وفوق ذلك أخذ مثل ما في الدنيا معه ويريد أن يقدمه افتداء لنفسه من عذاب جهنم فيرفضه الحق منه {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وتلك هي قمة الخزي التي يجب أن يبتعد عنها الإنسان.وبعد ذلك يقول الحق: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ...}..تفسير الآية رقم (37): {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}وكلما مَسَّهم لفحُ النار يريدون أن يخرجوا منها، لكن كيف تأتي لهم إرادة الخروج من النار. لا بد- إذن- أن لحظة لفحها عليهم وتقبلهم هنا وهناك تدفعهم ألسنة اللهب إلى القرب من الخارج فيظنون أن العذاب قد انتهى. ألم يقل الحق سبحانه من أجل أن يضع أمامنا التجسيد الكامل لبشاعة الجحيم: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29].هذا القول يُوحى أولاً بأن رحمةً ما ستصل إليهم، ولكن ما يأتي بعد هذا القول يرسم الهول الكامل ويجسده: {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29].وهذه قمة الهول. وهناك فرق بين الابتداء المُطمع والانتهاء المُوئِس.مثال ذلك السجين العطشان الذي يطلب كوب ماء. ويستطيع السجّأن أن يقول له: لا. ليس هناك ماء. أما إذا أراد السجان تعذيبه بأكثر من ذلك فهو يقول له: سآتي لك بالماء ويحضر له كوباً من ماء زلال، ويمد السجين يده لكوب الماء، لكن السجان يسكب كوب الماء أرضاً. هذا هو الابتداء المُطْمع والانتهاء المُوئِس. وكذلك رغبتهم في الخروج من النار؛ فلا إرادة لَهم في الخروج إلا إذا كانت هناك مظنة أن يخرجوا نتيجة تقليب ألسنة اللهب لهم، ولذلك يقول الحق أيضاً عن هؤلاء: {فَبَشِّرْهُم} [آل عمران: 21].وتثير البُشرى في النفس الأمل في العفو، فيفرحون ولكن تكون النتيجة هي: {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].وهكذا يريد لهم الحق صدمة الألم الموئس بعد الرجاء المطمع. {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 37].وبعد ذلك ينقلنا الحق إلى قوله سبحانه: {والسارق والسارقة...}..تفسير الآية رقم (38): {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}جاء الحق من قبل بعقاب قطاع الطريق والمفسدين في الأرض، وهنا يأتي بقضية أخرى يريد أن يصون بها ثمرة حركة المؤمن في مجتمعه؛ لأن الإيمان يحب من المؤمن أن يتحرك، وحتى يتحرك الإنسان لابد أن يضمن الإنسان ثمرة حركته. أما إن تحرك الإنسان وجاءت الثمرة ثم جاء من يأخذها فلابد أن يزهذ المتحرك في الحركة، وحين يزهد الإنسان في الحركة يتوقف تقدم الوجود؛ لذلك من حظنا أن تستمر حركة الحياة، ولا تستمر حركة الحياة إلا إذا أمن الإنسان على حركته، وأن تكون حركته فيما شرع الله.وحين يتحرك الإنسان فيما شرع الله ويكسب من حلال؛ فليس لأحد دخل؛ لأن حركة هذا الإنسان تفيد المجتمع سواء أكان ذلك في باله أم لم يكن.وقلنا من قبل: إن الرجل الذي يملك مالاً يكتنزه يجد الحق يأمره بأن يستثمر هذا المال؛ لأنه سبحانه أمر بفتح أبواب الخير لمن يجد المال، فيدفع بخاطر بناء عمارة شاهقة في قلب صاحب المال، فيقول الرجل لنفسه: إن المال عندي مكتنز فلأبني لنفسي عمارة، ويزين له الحق هذا الأمر. ويفكر الرجل في أن يبني عمارة من عشرة طوابق وفي كل طابق أربع شقق، وليكن إيجار كل شقة مائة جنيه. وهو حصيلة شهرية لا بأس بها.لقد حسب الرجل المسألة وهو لا يدري أن الله سبحانه وتعالى يقذف في باله الخواطر، فيُسرع ليشتري قطعة الأرض. وبعد ذلك يأتي بمن يُصمّم بنيان العمارة ومن يقوم بالبناء، وتخرج النقود المكتنزة. وهكذا نرى أن الثرى قبل أن ينتفع بعمارته كان غيره قد انتفع بماله حتى أكثر طبقات المجتمع فقرا. ويحدث كل ذلك بمجرد الخاطر. ولكل إنسان خواطره، فالبخيل له من يسرف في ماله، والكريم له من يكتنز من ماله. وإياك أن تظن أن هناك حركة في الوجود خارجة عن إرادة الله. فالحق يقول: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ} [آل عمران: 89].وهم يفعلون ذلك لأن الذنوب تطاردهم، فيعوضون ذلك بإصلاح أعمالهم. ولذلك نجد أن الخير إنما يأتي من المسرفين على أنفسهم فيريدون إصلاح أمورهم وليس هناك من يستطيع أن يأخذ شيئاً من وراء الله. {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114].كأن الحق سبحانه وتعالى بمجرد الخواطر يدفع الناس إلى ما يريد. نعم. فهو غيب قيّوم؛ ولذلك يكون تدبيره في الكون غيباً. وفي قرانا يخصّصون يوماً للسّوق ونرى ساحته في اليوم المُخصص ونتأملها فنتعجب من إبداع مُحرّك الكون؛ ففي الصباح يسير رجال إلى السوق ومعهم عصيّهم ولا يحملون شيئاً. وهؤلاء ذاهبون لشراء ما يحتاجون إليه، وآخرون يسوقون أمامهم العجول أو الحمير، وهؤلاء يذهبون لبيع بضائعهم. ونرى نساء تحمل كل واحدة منهُن صنفاً من الخضار فنعرف أنهن يذهبن للبيع في السوق.ونرى أخريات يحملن سِلالاً فارغة، ونعرف أن كلاً منهن ذاهبة للشراء. وفي آخر النهار نرى المسألة معكوسة، من كان يحمل في الصباح شيئاً حمله غيره، فمن الذي هيّج الخواطر ليذهب من يرغب في البيع إلى السوق ليبيع؟من الذي حرّك الشاري للشراء؟ هو الحق سبحانه يحقق للرّاغب في البيع أن يوجد المشتري، ويحقق للراغب في الشراء أن يوجد البائع. إنه ترتيب الحيّ القيّوم. ونسمع من يقول: لقد أنزلنا في السوق اليوم عشرين طناً من الطماطم وأربعين طناً من الكوسة. وغيرها من الأطنان. ونجد آخر النهار أن كل شيء قد بيع. إنها خواطر الله المتوازنة في الناس والتي توازن المجتمع.إذن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة المُتحرّك. ويُريد أيضاً ألاّ يقتات الإنسان أو يتمتّع بغير مجهود؛ لأن من يسرق إنما يأخذ مجهود غيره. وهذا الفعل يُزَهِّدُ الغير في العمل.إن في الإسلام قاعدة هي: عندما تكثر البطالة يقال لك لا تتصدق على الناس بنقود من ملكك، ولكن افتح أي مشروع ولو لم تكن في حاجة إليه كأن تحفز بئراً وتردمها بعد ذلك وأعط الأجير أجره حتى لا يتعوّد الإنسان على الكسل، بل يجب تعويده على العمل، ومن لا يقدر على العمل فلابد له من ضمان. فضمان الإنسان لقوته يكون من عمله أولاً، فإن لم يكن قادراً على العمل، فضمانه من أسرته وقرابته، فإن لم توجد له أسرة أو قرابة، فأهل محلّته مسئولون عنه، وإن لم يستطع أهل القرية أو المحلّة أن يوفّروا له ذلك، فبيت المال عليه أن يتكفّل بالفقراء.إذن فالأرضية الإيمانية تَحثُّنا على أن نضمن للإنسان العمل، أو نعوله ونقوم بما يحتاج إليه إن كان عاجزاً. ولكن الآفة أن بعضاً من الناس يحبُّون عملاً بذاته، فهذا يرغب في التوظّف في وظيفة لا عمل فيها، ونقول له: في العالم المعاصر أزمة عمالة زائدة فتعلّم أي مهارة؛ فما ضنت الحياة أبداً على طالب قوت من عمل.ولنا في رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأُسْوَة حين أقام أول مزادٍ في الإسلام. عندما جاء له رجلٌ من الأنصار يسأله، فقال له: (أما في بيتك شيء. قال الرجل: بلى، حِلْسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقَعْبٌ- أي قدح- نشرب فيه من الماء. قال: إيتني بهما. فأتاه بهما. فأخذهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: من يزيد على درهم؟- مرتين أو ثلاثا- ثال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما للأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فنبذه- أي أَلْقِهِ- إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُوماً فائتني به).إذن أشار النبي صلّى الله عليه وسلم على الرجل وأمره بأن يحضر الحِلْس الذي ينام عليه والقدح الذي يشرب فيه، حتى يعرف الرجل أنه تَاجَر في شيء يملكه، لا في عطاء من أحد. وجاء الرجل إلى حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ووجد أن النبي قد سوّى له يداً لقدوم وقال للرجل: (اذهب فاحتطب وبعْ، ولا أرينَّك خمسة عشر يوماً).وذهب الرجل يحتطب ويبيع امتثالاً لأمر النبي صلّى الله عليه وسلم وجاء بعد خمسة عشر يوماً وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً.فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة».هذه هي التربية.إذن فالغرض الأساسي أن يحمي الإسلام أفراد المجحتمع، فالذي لا يجد قُوتَه نساعده بالرأي وبالعلم والقدرة والقوة. والخير أن نعلّمهم أن يعملوا لأنفسهم. ولذلك جاء الحق لنا بقصة ذي القرنين المليئة بالعِبَر: {حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف: 93].أي أنه لا توجد صلة للتفاهم. ولكنهم قالوا: {قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} [الكهف: 94].وها هو ذو القرنين يعلن أنه في غير حاجة إليهم، ولكن يكلفهم بعمل حتى يحقق لهم مُرادهم: {آتُونِي زُبَرَ الحديد حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين قَالَ انفخوا حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96].ومن العجيب أن القرآن عندما يحكي أمراً فهو لا يحكيه إلا لهدف، هم طلبوا من ذي القرنين أن يبني سدّاً، لكنه اقترح أن يجعل لهم رَدماً، ما الفرق؟ لقد تبين من العلم الحديث أن السَدّ قد تحدث له هزّة من أي جانب فينهدم كله، أما الرّدْم فإن حدثت له هزّة يزددْ تماسكاً. ولم يعمل ذو القرنين لهم، ولكن علّمهم كيف يصنعون الرَّدْم، وذلك حتى لا يعيشوا مع الإحساس بالعجز. وهكذا يُعلّمنا القرآن أن الإنسان لابد له من عمل. لكن ماذا إن سَرَق؟.أولاً ما هي السَّرقة؟ إنها أَخذُ مالٍ مقوّم خفية. فإن لم يكن الأخذ خفية فهو اغتصاب، ومرة أخرى يكون خطفاً، ومرة رابعة يكون اختلاساً.فالأَخْذُ له أنواع مُتعددة؛ فالتاجر الذي يقف في دكانه ليبيع أي شيء، وجاء طفلٌ صغير وخطف قطعةً من الحلوى وجرى ولا يستطيع التاجر أن يطول الطفل أو أن يقدر على الإمساك به، هذا خَطْف. أما الذي يغتصب فهو الذي قهر صاحب الشيء على أن يتركه له. أما الاختلاس فهو أن يكون هناك إنسان أمين على مال فيأخذ منه، أما السرقة فهي أخذ لمال مقوَّم خفية وأن يكون في حرز مثله؛ أي يكون في مكان لا يمكن لغير المالك أن يدخله أو يتصرف فيه إلا بإذنه.أما الذي يترك بابه مفتوحاً أو يترك بضاعته في الشارع فهو المُقصّر، فكما يأمرنا الشرع بألا يسرق أحد أحداً، كذلك يأمر بعد الإهمال، بل لابد للإنسان أن يعقل أشياءه ويتوكَّل. وسبحانه هو المُشرّع العَدْل الذي يُقيم اليقظة علىلجانبين. حدّد الشّرع السرقة بما قيمته ربع دينار. وربع الدينار في ذلك الزمن كان كفي لأن يأكل إنسان هو وعياله ويزيد، بل إن الدرهم كان يكفي أن يقيم أود أسرة في ذلك الوقت.وكيف نقوِّم ربع الدينار في زماننا؟. لإن كان لا يكفي لمعيشة، فيجب أن ترفع النصاب إلى ما يُعيش، ومادام الدينار كان في ذلك الزمان ذهباً؛ فربع الدينار ترتفع قيمته. وقديماً كان الجنيه الذهب يساوي سبعة وتسعين قرشاً ونصف القرش. أما الجنيه الذهب حاليا فهو يساوي أكثر من مائتين وسبعين جنيهاً، وقد يكون هناك إنسان يسرق لأنه محتاج أو جائع، ولذلك وضع الشرع له قدرا لا يتجاوزه المحتاج لحفظ حياته وحياة من يعول هو الدرهم. وسرقة الدرهم لا حد فيها كما لا إثم فيها، وذلك إذا استنفذ كل الطرق المشروعة في الحصول على القوت، ونعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الدرهم للرجل وقال: (اشتر طعاماً لك ولأسرتك).وكان الدرهم- كما قلنا- يكفي في ذلك الزمن. والدرهم جزء من اثني عشر جزءا من الدينار، فربع الدينار ثلاثة دراهم، والدرهم يساوي في زمننا هذا أكثر من عشرين جنيها.والسطحيون يقولون: إن سيدنا عمر ألغى حَدّ السّرقة في عام الرّمادة؛ ونقول لهم: لا، لم يسقط عمر بن الخطاب الحد، فالحد باقٍ ولكنه لم يدخل الحادثة التي حصلت فيما يوجب الحد. والحادثة التي حدثت في عام الرمادة أو عام الجوع هي وجود الشبهة. وبفطنته كأول أمير للمؤمنين، لم يدخل الحوادث فيما يوجب الحد. وفي مسألة عبدالرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة. عندما سرق غلمانه، فماذا حدث؟ قال الغلمان لعمر: كنا جوعى ولم يكن ابن أبي بلتعة يعطينا الطعام. ودرأ سيدنا عمر الحَدَّ بالشُّبهة.إذن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة المتحرك وثمرة حركة المتحرك.، لكن بعض السطحيين في الفهم يقولون مثل ما قال المعرّي:وهنا ردّ عليه العالِم المؤمن فقال: أنت تعترض لأننا نعطي ديِة اليَد خمسمائة دينار، وعندما يسرق إنسان. نقطع يد السارق لأنها أخذت ربع دينار.وقال العالم المؤمن: ونلاحظ أن التشريعات الجنائية وتشريعات العقوبات ليست تشريعات بشرية، لكنها تشريعات في منتهى الدقة.بالله لو أن مُقنّنا يقنن للسارق أو السارقة، ويُقَنّن للزاني والزانية ماذا يكون الموقف؟إن الذي يتكلم هو رب العالمين، فقال هنا: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. والسرقة عادة ما تكون رغبة في الحاجة وهي غالبا ما تكون من عمل الرجل. أما في الزاني والزانية، فلو أن الرجل لم يُهّيج ويستثر بجمال امرأة لما فكر في الزِّنا. إذن فهي صاحبة البداية. وينص سبحَانه على العقوبة وجاء بالحكمة. وعندما يُشرع للقصاص وهي الحالة التي يغلي فيها دم أقارب القتيل، فيقول: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178].ولنر الحَنانَ الموجود في كلمة (أخيه). ولا نجد تقنينا يدخل التحنين بين سطوره، إلا تقنين الرَّب الذي خلق الإنسان وهو أعلم به.{والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا}. هذا ما انتهى إليه حَد السّرقة في تشريعات السماء، وحتى في زمن سيدنا موسى كان السّارق يُستَرَق بسرقته؛ أي يتحوَّل الحُرّ إلى عَبد نتيجة سرقته. ولذلك نلاحظ ونحن نقرأ سورة سيدنا يوسف: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70].و(السقاية) هي الإناء الذي كان يشرب فيه الملك، وكان اسمها (صواع الملك) وأخذوها ليكيلوا بها. وبعد أن جعل السقاية في رحل أخيه، ماذا حدث؟ {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 70-72].وهنا قال إخوة يوسف بأنهم لم يأتوا ليفسدوا في الأرض، لذلك ترك لهم يوسف الأسلوب في تحديد الجزاء، ولم يحاكمهم بشرع الملك: {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كذلك نَجْزِي الظالمين} [يوسف: 75].لقد جعلهم يعترفون، ويحاكمهم حسب شريعتهم لأن شرع الملك أن من يسرق شيئا عليه أن يغرم ضعفي ما أخذ.وهذا ما يوضح معنى قول الحق سبحانه وتعالى: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76].أي أنها حياة ليستبقي يوسف أخاه معه. ولو استعمل قانون مصر في ذلك الزمن لما أخذ أخاه معه. وهذا كيد لصالح يوسف؛ لأن (اللام) تفيد الملكية أو النفعية. وأضاف إخوة يوسف قائلين: {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [يوسف: 77].ولماذا قالوا ذلك؟ أصل هذه المسألة أن يوسف كان يحيا عند عمته. وعندما كبر وأرادوا أن يأخذوه أرادات العمة أن تستبقيه فدست في متاعه تمثالاً. أو منطقة كانت لها من أبيها إسحاق وادعت أنها فقدت ذلك؛ ففتشوا الولد فعثروا معه على الشيء الذي ادعت عمته سرقته فاستبقته بشرع بني إسرائيل. وكان جزاء السرقة في الشريعة هو الاسترقاق. ونُسِخ هذا الشرع وجاءت آية حد السرقة تأكيداً للنسخ.وإن لم يكن قد نُسخ فهذه الآية هي بداية للنسخ. {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.والسُّنة هي التي تبين لنا كيفية القطع، وكان القطع لليد اليمنى؛ لأنها عادة التي تباشر مثل ذلك العمل. وفي إحدى رحلاتي إلى أمريكا، حدثني أخ مسلم ضمن جماعة تحضر إحدى محاضراتي وقال: إن التَّيَمُّن يجب أن يكون في كل شيء، فلماذا يأكل البعض بيده اليسرى؟قلت: إن هذه مسألة تكوينية بدليل أن بعض الناس أجهزتها تختلف، فليست المسألة ميكانيكية. وأضفت: إن من خيبة بعض الاختراعات البشرية أنها لا تخطئ كالحاسب الآلي. ولو كان ينتقي ويختار لأمكن أن يخطئ، أما العقل فهو يعرف الانتقاء. وقلن: إنني أطلب من السائل أن يقف. فلما وقف طلبت منه أن يتقدم جهتي فلما تقدم جهتي مَد رجله اليمنى، فقلت تعليقا على هذا: (إنه تكوين خلقي). ولذلك فالذي عنده ولد تتأبى عليه يمينه فإياك أن تُرغِمه على ذلك لأن مثل هذه العملية أرادها الخالق لتَشُذّ في الخبق، ولتظهر قدرة الخالق.فلا داعي لقهر الابن الذي تتأبَى عليه يَمينه؛ لأن العلماء قالوا إن مراكز السيطرة ليست في اليد ولكن في المخ. وقد أوجد الحق تلك الأمور في الكون حتى نفهم أن خالق الكون لم يخلق الكون وتركه بسننه، لا. أنه يخرق السنن كلما أراد. لكن لو تأبى إنسان على استعمال اليد اليمنى في الأكل مثلا وهو قادر على ذلك فإنه يكون مخالفا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجافيا للفطرة.{فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً} وإذا سمعنا كلمة (كسب) فهي تعني الأخذ لأكثر من رأس المال. والسارق يكسب السيئة لأنه أخذ ما فوق الضرورة. والنكال: العقاب أو هو العبرة المانعة من وقوع الجرم سواءً لمن ارتكب الجريمة وكذلك لمن يراها. والحق يقول عن بعض الأمور: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2].وضرورة الإعلان عن تنفيذ عقوبة الفعل المؤَثِّم من أجل الاعتبار والعظة، فالتشريع ليس من بشر لبشر، إنما تشريع خالق لمخلوق. والخالق هو الذي صنع الصنعة فلا تتعالم على خالق الصنعة. والشريعة لا تقرر مثل هذا العقاب رغبة في قطع الأيدي، بل تريد أن تمنع قطع الأيادي.وإن ظل التشريع على الورق دون تطبيق فلن يرتدع أحد. والذين قالوا (قطع الأيدي فعل وحشي)، نقول لهم: إن يداً واحدة قطعت في السعودية فامتنعت كل سرقة. وإذا كان القتل أنفى للقتل؛ فالقطع أنفى للقطع، أما عن مسألة التشويه التي يطنطنون بها فحادثة سيارة واحدة تشوه عدداً من الناس وكذلك حادثة انفجار لأنبوبة (بوتوجاز) تفعل أكثر من ذلك.فلا تنظروا إلى القصاص مفصولا عن السرقة إن انتشرت في المجتمع. وإبطاء القائمين على الأمر للإجراءات التي يترتب عليها العقوبات ينسي المجتمع بشاعة الجريمة الأولى، وعندما يحين وقت محاكمة المُجرم تكون الرحمة موجودة.لكن إن وُقِّعَ العقاب سَاعَة الجُرم تنته المسألة. وساعة يسمع اللصوص أننا سنقطع يد السارق، سيفكر كل منهم قبل أن يسرق ولا يرتكب الجُرم؛ لأن المُراد من الجزاء العبرة والعِظة ومقصد من مقاصد التربية وتذكرة للإنسان بمطلوبات الله عنده إن أخذته الغفلة في سياسة الحياة فالجزاء هنا نكالا أي عقابا و(نكولا) وهو الرجوع عن فعل الذنب أي العبرة المانعة من وقوع الجُرم. فكأن الجزاء كان المقصود منه أن يرى الإنسان من قطعت يده فيمتنع عن التفكير في مثل ما آلت إليه هذه الحالة.أو أن يحافظ الذي قُطعت يده على ما تبقى من جوارحه الباقية؛ لأنه قد قُطِعت يمينه وإن عاد قُطِعت يساره، فإن عاد قُطِعت رجله اليمنى ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى ويكون النكال لمنع الرجوع للجريمة، وهو إما رجوع ممن رأى العقوبة تقع على السارق أو الرجوع من السارق نفسه إن رأى أي جارحة من جوارحه قد نقصت. فيحرص أن تظل الجوارح الباقية له. ويعامل الحق خلقه بسُنة كونية هي: أن من يأخذ غير حقِّه يُحَرم من حَقه. ومثال ذلك قوم من بني إسرائيل قال الله حكما فيهم: لقد استحللتم ما حرمته عليكم فلا جزاء لكم إلا أن أضيق عليكم وأحرم عليكم ما أحللت لكم. فقال: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].إذن ليس في قدرة أحد أن يضحك على الله أو أن يخدع الله أو أن يأخذ ما ليس حقا له. فإن أسرف الإنسان في تعاطي أشياء حرمها الله عليه فسيأتي وقت يحرمه الله فيه من أشياء حللها له كالذي أسرف في شُرب الخمر أو في تناول المواد المخدِّرة التي تغيب عن الوعي، يبتليه الحق بما يجعله محروماً من مُتع أخرى كانت حلالا. وإن أسرف الإنسان مثلا في تناول الحلوى. فإن المرض يأتيه، ويحرم الله عليه أشياء كثيرة.ولو قاس المسرف على نفسه ما أحله لنفسه بما حرمه الله عليه لوجد الصفقة بالنسبة له خاسرة. فالذي أسرف بغير حق في أن يأكل مال احد، يرى ماله وهو يضيع أمام عينيه. ولنا في ذلك المثل. كان السادة في الريف- قديما- يقومون بتنقية الدقيق إلى درجة عالية حتى يصبح في تمام النقاء من (الردة). ويسمون هذا النوع من الدقيق (الدقيق العَلاَمَة) وكانوا يأكلون منه ويتركون البقية من الدقيق مختلطا بالردة ليأكله الخدم أو الفقراء، فتأتي فترة يُحرم الأطباء عليهم هذا الدقيق الأبيض، ولا يجد الواحد منهم طعاما إلا الدقيق (السِّن) الذي كان يرفضه قديما فعلينا- إذن- أن ننظر إليها كقضية سائدة في الكون كله، ولنجعل قول الله أمامنا: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].فأنت إن أخذت كسب يد واحدة يحرمك الحق من يدٍ لا من كسب. فإن زدت حرمك الله من جارحة أخرى، وهكذا. وتلك سُنَّة كونية تعدل نظام الكون بالنسبة للناس، وخصوصا من يستبطئون جزاء الآخرة، ومن يُغْريهم ويَغُرهم ويطمعهم حِلْم الله عليهم.وأنت إذا ما نظرت وصنعت لنفسك رُقعة جغرافية في البيئة التي تعيش فيها في أسرتك، أو حيك، أو بلدك أو أمتك، فأنت تجد قوما قد حرموا بأنفسهم من غير أن يحرم عليهم أحد، فتجد واحداً مصاباً- والعياذ بالله- بالبولينا: ولا يقدر أن يأكل قطعة من اللحم، أو آخر مصابا بمرض السكر؛ وتراه غير قادر على أن يأكل قطعة من الحلوى، أو ملعقة من العسل. لأن أحداً لن يستطيع أن يأخذ شيئا بدون علم الله. وصنع الله ذلك لأنه عزيز لا يُغلَب. فإياك أن تظن أن بإمكانك أخذ شيء من وراء شرع الله أو تظن انك خدعت شَرع الله، فهو سبحانه عزيز لا يُغلَب أبداً. ونرى في حياتنا الذين يأخذون أموالاً بغير حق رشوة أو سرقةً أو اختلاساً، نرى مصارف هذه الأشياء أو الرشاوي أو الأموال قد ذهبت وأنفقت في مهالك ومصائب؛ إننا نجدها قد أخذت ما أخذوه من حرام، ومالت وجارت على ما كسبوه من حلال. وأريد من المسرفين على أنفسهم أن يضعوا لأنفسهم كشف حساب، فيكتبوا في ناحية القرش الذي كسبوه من حرام، ويكتبوا في ناحية أخرى كل قرش كسبوه من حلال. وليشاهد كل مسرف على نفسه في أكل حقوق الناس المصائب التي سيبتليه الله بها، ولسوف يجد أنه قد صرف لمواجهة المصائب كل الحرام وبعضا من الحلال. ولذلك قال الأثر الصالح: (من أصاب مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر).وكنت أعرف اثنين من الناس، ولكل واحد منهما ولد في التعليم. وكنت أجد أحدهما يعطي ولده خمسة قروش. فيقول الابن لأبيه: معي مصروف الأمس. وكان الآخر يعطي ولده عشرة قروش فيقول الابن له: (إنها لا تكفي شيئاً). وشاء الحق أن يجمعنا نحن الثلاثة في مكتب وزارة الري بالزقازيق، فلما جئنا لنخرج إذا برئيس كتاب تلك المصلحة يأتي بظرف أصفر كبير به أشياء كثيرة ويناوله لواحد منهما، فسألته: ما هذا؟ فقال: بعض من الورق الأبيض وبعض من ورق النشاف وعدد من الأقلام حتى يكتب الأولاد واجبهم المدرسي. فقلت له: هذا سر خيبة أولادك الدراسية وإسرافهم والدروس الخصوصية التي تدفع فيها فوق ما تطيق وسر قول ابنك لك: إن القروش العشرة لا تكفي شيئا.أما الشخص الآخر فابنه يقول له: لا أريد مصروف يد اليوم لأن معي خمسة قروش هي مصروف أمس ولا أريد أن آخذ دروسا خصوصية لأني أحب الاعتماد على نفسي.وسبحانه الحق القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم. ويقول لنا بلاغا: قال أبو الجلد: (أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لقومك: ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي؟ إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون أني أراكم قَلِمَ تجعلونني أهون الناظرين إليكم).إذن قوله الحق: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله} واضح تماما، ويردف الحق قوله هذا: {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. وسبحانه عزيز لا يغلبه أحد، حتى الذي يسرق، إنما يسرق الرزق المكتوب له؛ لأن العلماء اتفقوا على أن الشيء المسروق رزق أيضا لأنه يُنتفَع به. ووالله لو صبر لجاءه وطرق عليه بابه. فإياكم أن تحتالوا على قدر الله؛ لأنه حكيم في تقديره.وكلمة (حكيم) لها في حياتنا قصة، كنا ونحن في مقتبل حياتنا التعليمية نحب الأدب والشعر والشعراء، وبعد أن قرأنا للمعري وجدنا عنده بعضا من الشعر يؤول إلى الإلحاد، فزهدنا فيه وخصوصا عندما قرأنا قوله في قصيدته: وأخذنا من ذلك القول أنّه ينكر البعث؛ فقلنا: يغنينا الله عنه. ولكن صديقنا الشيخ فهمي عبداللطيف- رحمه الله- رأى المعري في الرؤيا وكان مولعا بالمعري، فجاء إلى ذات صباح ونحن في الزقازيق وقال لي: يا شيخ لقد رأيت المعري الليلة في الرؤيا وهو غاضب منك أنت لأنك جفوته. فقلت: أنا جفوته لكذا وكذا وأنت تعلم السبب في ذلك. وقال الشيخ فهمي عبداللطيف: هذا ما حصل.وقلت لنفسي: يجب أن أعيد حسابي مع المعري، وجئنا بدواوينه (سقط الزند) و(لزوم ما لا يلزم). ووجدنا أن للرجل عُذراً في أن يعتب علينا؛ لأن آفة الناس الذين يسجلون خواطر أصحاب الفكر أنهم لا ينظرون إلى تأريخ مقولاتهم، وقد قال المعري قوله الذي أنكره عليه وقت أن كان شابا مفتونا بفكره وعندما نضج قال عكسه. وكثير من المفكرين يمرون بذلك، مثل طه حسين والعقاد، بدأ كل منهما الحياة بكلام قد يؤول إلى الإلحاد ولكنهما كتبا بعد النضج ما يحمل عطر الإيمان الصحيح؛ لذلك لا يصح لمن يحكم عليهم أن يأخذهم بأوليات خواطرهم التي بدأوها بالشَّك حتى يصلوا إلى اليقين. وجلست أبحث في المعري الذي قال: فوجدته هو نفسه الذي قال بعد أن ذهبت عنه المراهقة الفكرية: كأنه عاد إلى حظيرة الإيمان.وكذلك قال المعري: وقال بعد ذلك: وقلت للشيخ فهمي عبداللطيف: للمعري حق في العتاب وسأحاول أن أعاود قراءة شعره، والأبيات التي أرى فيها خروجا سأعد لها قليلا. وعندما جئت إلى ذلك البيت. قلت: لو أنه قال- وأنا أستأذنه-: فَلكل شيء حكمة. وحين نرى طبيباً يمسك طفلا قلبه لا يتحمل المُرِقد- أي البنج- أثناء إجراء عملية جراحية، فهل يظن ظان أن الطبيب ينتقم من هذا الطفل؟ طبعا لا، إذن فلكل شيء حكمة، ويجب أن ننظر إلى الشيء وأن نربطه بحكمته. والله عزيز أي لا يغلبه أحد ولا يحتال عليه أحد. وهو حكيم فيما يضع من عقوبات للجرائم؛ لأنه يزن المجتمع نفسه بميزان العدالة. ومن بعد ذلك يفتح الحق سبحانه باب التوبة رحمة لمن يتوب ورحمة للمجتمع؛ لذلك يقول الحق: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ...}.
|